فصل: ذكر مسير إسحاق بن كنداجيق إلى الشام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.حوادث سنة سبعين ومائتين:

.ذكر قتل الخبيث صاحب الزنج:

قد ذكرنا من حرب الزنج، وعود الموفق عنهم مؤيداً بالظفر، فلما عاد من قتالهم إلى مدينة الموفقية عزم على مناجزة الخبثاء، فأتاه كتاب لؤلؤ غلام ابن طولون يستأذنه في المسير إليه، فأذن له وترك القتال ينتظره ليحضر القتال، فوصل إليه ثالث المحرم من هذه السنة في جيش عظيم، فأكرمه الموفق، وأنزله وخلع عليه وعلى أصحابه ووصلهم، واحسن إليهم، وأمر لهم بالأرزاق على قدر مراتبهم، وأضعف ما كان لهم، ثم تقدم إلى لؤلؤ بالتأهب لحرب الخبثاء.
وكان الخبيث لما غلب على نهر أبي الخصيب، وقطعت القناطر والجسور التي عليه، أحدث سكراً في النهر وجانبيه، وجعل في وسط النهر باباً ضيقاً لتحتد جرية الماء فيه، فتمتنع الشذا من دخوله في الجزر، ويتعذر خروجها منه في المد، فرأى الموفق أن جريه لا يتهيأ إلا بقلع هذا السكر، فحاول ذلك، فاشتدت محاماة الخبثاء عليه، وجعلوا يزيدون كل يوم فيه، وهومتوسط دورهم، والمروية تسهل عليهم، وتعظم على من أراد قلعه، فشرع في محاربتهم بفريق بعد فريق من أصحاب لؤلؤ ليتمرنوا على قتالهم، ويقفوا على المسالك والطرق في مدينتهم، فأمر لؤلؤاً أن يحضر في جماعة من أصحابه للحرب على هذا السكر، ففعل، فرأى الموفق من شجاعة لؤلؤ وإقدامه وشجاعة أصحابه ما سره، فأمر لؤلؤاً بصرفهم إشفاقاً عليهم، ووصلهم الموفق وأحسن إليهم.
وألح على هذا السكر، وكان يحارب المحامين عليه وأصحابه وأصحاب لؤلؤ وغيرهم، والفعلة يعملون في قلعة، ويحارب الخبيث وأصحابه في عدة وجوه، فيحرق مساكنهم، ويقتل مقاتليهم، واستأمن إليه الجماعة، وكان قد بقي لخبيث وأصحابه بقية من أرضين بناحية النهر الغربي، لهم فيها مزارع وحصون وقنطرتان، وبه جماعة يحفظونه، فسار إليهم أبوالعباس، وفرق أصحابه من جهاتهم، وجعل كمينأن ثم أوقع بهم فانهزموأن فكلما قصدوا جهة خرج عليهم من يقاتلهم فيهأن فقتلوا عن آخرهم لم يسلم منهم إلا الشريد، فأخذوا من أسلحتهم ما أثقلهم حمله، وقطع القنطرتين، ولم يزل الموفق يقاتلهم على سكرهم، حتى تهيأ له فيه ما أحبه في خرقه.
فلما فرغ منه عزم على لقاء الخبيث، فأمر بإصلاح السفن والآلات للماء والظهر، وتقدم إلى أبي العباس ابنه أن يأتي الخبيث من ناحية دار المهلبي، وفرق العساكر من جميع جهاته، وأضاف المستأمنة إلى شبل، وأمره بالجد في قتال الخبيث، وأمر الناس أن لا يزحف أحد حتى يحرك علماً أسود كان نصبه على دار الكرماني وحتى ينفخ في بوق بعيد الصوت.
وكان عبوره يوم الاثنين لثلاث بقين من المحرم، فعجل بعض الناس، وزحف نحوهم، فلقيه الزنج، فقتلوه منهم، وردوهم إلى مواقفهم، ولم يعلم سائر العسكر بذلك لكثرتهم، وبعد المسافة فيما بين بعضهم وبعض، وأمر الموفق بتحريك العلم الأسود، والنفخ في البوق، فزحف الناس في البر والماء يتلوبعضهم بعضأن فلقيهم الزنج وقد حشدوا واجترأوأن بما تهيأ لهم، على من كان يسرع إليهم، فلقيهم الجيش بنيات صادقة، وبصائر نافذة، واشتد القتال، وقتل من الفريقين جمع كثير، فانهزم أصحاب الخبيث، وتبعهم أصحاب الموفق يقتلون ويأسرون، واختلط بهم ذلك اليوم أصحاب الموفق، فقتل منهم ما لا يحصى عددأن وغرق منهم مثل ذلك، وحوى الموفق المدينة بأسرهأن فغمنها أصحابه، واستنقذوا من كان بقي من الأسرى من الرجال، والنساء، والصبيان، وظفروا بجميع عيال علي بن أبان المهلبي، وبأخويه: الخليل، ومحمد وأولادهمأن وعبر بهم إلى المدينة الموفقية.
ومضى الخبيث في أصحابه، ومعه ابنه انكلاي، وسليمان بن جامع، وقواد من الزنج وغيرهم، هاربين، عامدين إلى موضع كان الخبيث قد أعده ملجأ إذا غلب على مدينته، وذلك المكان على النهر المعروف بالسفياني، وكان أصحاب الموفق قد اشتغلوا بالنهب والإحراق، وتقدم الموفق في الشذا نحونهر السفياني، ومعه لؤلؤ وأصحابه، فظن أصحاب الموفق أنه رجع إلى مدينتهم الموفقية، فانصرفوا إلى سفنهم بما قد حووأن وانتهى الموفق ومن معه إلى عسكر الخبيث وهم منهزمون، واتبعهم لؤلؤ في أصحابه، حتى عبر السفياني فاقتحم لؤلؤ بفرسه، وابتعه أصحابه، حتى انتهى إلى النهر المعروف بالفربري فوصل إليه لؤلؤ وأصحابه فأوقعوا به وبمن معه، فهزمهم حتى عبر نهر السفياني، ولؤلؤ في أثرهم، فاعتصموا بجبل وراءه، وانفرد لؤلؤ وأصحابه بأتباعهم إلى هذا المكان في آخر النهار، فأمر الموفق بالانصراف فعاد مشكوراً محموداً لفعله، فحمله الموفق معه، وجدد له من البر والكرامة ورفعة المنزلة ما كان مستحقاً له، ورجع الموفق فلم ير أحداً من أصحابه بمدينة الزنج، فرجع إلى مدينته واستبشر الناس بالفتح وهزيمة الزنج وصاحبهم.
وكان الموفق قد غضب على أصحابه بمخالفتهم أمره، وتركهم الوقوف حيث أمرهم، فجمعهم جميعأن ووبخهم على ذلك، وأغلظ لهم، فاعتذروا بما ظنوه من انصرافه، وانهم لم يعلموا بمسيره، ولوعلموا ذلك لأسرعوا نحوه، ثم تعاقدوا وتحالفوا بمكانهم على أن لا ينصرف منهم أحد إذا توجهوا نحوالخبيث حتى يظفروا به، فإن أعياهم أقاموا بمكانه حتى يحكم الله بينهم وبينه. وسألوا الموفق أن يرد السفن التي يعبرون فيها إلى الخبيث، لينقطع الناس عن الرجوع، فشكرهم وأثنى عليهم وأمرهم بالتأهب.
وأقام الموفق بعد ذلك إلى الجمعة يصلح ما يحتاج الناس إليه، وأمر الناس عشية الجمعة بالمسير إلى حرب الخبثاء بكرة السبت، وطاف عليهم هوبنفسه يعرف كل قائد مركزه، والمكان الذي يقصده، وغدا الموفق يوم السبت لليلتين خلتا من صفر، فعبر بالناس، وأمر برد السفن، فردت وسار يقدمهم إلى المكان الذي قدر أن يلقاهم فيه.
وكان الخبيث وأصحابه قد رجعوا إلى مدينتهم بعد انصراف الجيش عنهم، وأملوا أن تتطاول بهم الأيام وتندفع عنهم المناجزة، فوجد الموفق المتسرعين من فرسان غلمانه والرجالة قد سبقوا الجيش فأوقعوا بالخبيث وأصحابه وقعة هزموهم بهأن وتفرقوا لا يلوي بعضهم على بعض، وتبعهم أصحاب الموفق يقتلون ويأسرون من لحقوا منهم، وانقطع الخبيث في جماعة من حماة أصحابه وفيهم المهلبي، وفارقه ابنه انكلاي، وسليمان بن جامع، فقصد كل فريق منهم جمعاً كثيفاً من الجيش.
وكان أبوالعباس قد تقدم، فلقي المنهزمين في الموضع المعروف بعسكر ريحان، فوضع أصحابه فيهم السلاح، ولقيهم طائفة أخرى، فأوقعوا بهم أيضأن وقتلوا منهم جماعة، وأسروا سليمان بن جامع، فأتوا به الموفق من غير عهد ولا عقد، فاستبشر الناس بأسره، وكثر التكبير، وأيقنوا بالفتح، إذ كان أكثر أصحاب الخبيث غناء عنه وأسر من بعده إبراهيم بن جعفر الهمداني وكان أحد أمراء جيوشه، فأمر الموفق بالاستيثاق منهم، وجعلهم في شذاة لأبي العباس.
ثم إن الزنج الذين انفردوا مع الخبيث حملوا على الناس حملة أزالوهم عن مواقفهم، فقتروأن فأحس الموفق بفتورهم، فجد في طلب الخبيث وأمعن، فتبعه أصحابه، وانتهى الموفق إلى آخر نهر أبي الخصيب، فلقيه البشير بقتل الخبيث، وأتاه بشير آخر ومعه كف ذكر أنها كفه، فقوي الخبر عنده، ثم أتاه غلام من أصحاب لؤلؤ يركض ومعه رأس الخبيث، فأدناه منه، وعرضه على جماعة من المستأمنة فعرفوه، فخر لله ساجدأن وسجد معه الناس، وأمر الموفق برفع رأسه على قناة، فتأمله الناس، فعرفوه، وكثر الضجيج بالتحميد.
وكان مع الخبيث، لما أحيط به، المهلبي وحده، فولى عنه هاربأن وقصد نهر الأمير فألقى نفسه فيه يريد النجاة؛ وكان انكلاي قد فارق أباه قبل ذلك وسار نحوالديناري.
ورجع الموفق ورأس الخبيث بين يديه، وسليمان معه، وأصحابه إلى مدينته، وأتاه من الزنج عالم كبير يطلبون الأمان فأمنهم، وانتهى إليه خبر انكلاي والمهلبي، ومكانهمأن ومن معهما من مقدمي الزنج، فبث الموفق أصحابه في طلبهم، وأمرهم بالتضييق عليهم، فلما أيقنوا أن لا ملجأ أعطوا بأيديهم، فظفر بهم وبمن معهم، وكانوا زهاء خمسة آلاف، فأمر بالاستيثاق من المهلبي وانكلاي، وكان ممن هرب قرطاس الرومي الذي رمى الموفق بالسهم في صدره، فانتهى إلى رامهرمز، فعرفه رجل، فدل عليه عامل البلد، فأخذه وسيره إلى الموفق فقتله أبوالعباس.
وفيها استأمن درمويه الزنجي إلى أبي أحمد، وكان درمويه من أنجاد الزنج وأبطالهم، وكان الخبيث قد وجهه قبل هلاكه بمدة إلى موضع كثير الشجر والأدغال والآجام، متصل بالبطيخة، وكان هوومن معه يقطعون هنالك على السابلة في زواريق خفاف، فإذا طلبوا دخلوا الأنهار الصغار الضيقة واعتصموا بالأدغال، وإذا تعذر عليهم مسلك لضيقه حملوا سفنهم ولجأوا إلى الأمكنة الوسيعة، ويعبرون على قرى البطيحة، ويقطعون الطريق، فظفر بجماعة من عسكر الموفق معهم نساء قد عادوا إلى منازلهم، فقتل الرجال، وأخذ النساء، فسألهن عن الخبر، فأخبرهن بقتل الخبيث وأسر أصحابه وقواده، ومصير كثير منهم إلى الموفق بالأمان، وإحسانه إليهم، فسقط في يده، ولم ير لنفسه ملجأ إلا طلب الأمان والصفح عن جرمه، فأرسل يطلب الأمان، فأجابه الموفق إليه، فخرج وجميع من معه، حتى وافى عسكر الموفق، فأحسن إليهم وأمنهم.
فلما اطمأن درمويه أظهر ما كان في يده من الأموال والأمتعة، وردها إلى أربابها ظاهرأن فعلم بذلك حسن نيته، فازداد إحسان الموفق إليه، وأمر أن يكتب إلى أمصار المسلمين بالنداء في أهل النواحي التي دخلها الزنج بالرجوع إلى أوطانهم، فسار الناس إلى ذلك؛ وأقام الموفق بالمدينة الموفقية ليأمن الناس بمقامه، وولى البصرة، والأبلة، وكور دجلة، رجلاً من قواده قد حمد مذهبه، وعلم حسن سيرته، يقال له العباس بن تركس، وأمره بالمقام بالبصرة، وولى قضاء البصرة والأبلة وكور دجلة محمد بن حماد.
وقدم ابنه أبا العباس إلى بغداد، ومعه راس الخبيث ليراه الناس، فبلغها لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة.
وكان خروج صاحب الزنج يوم الأربعاء لأربع بقين من شهر رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، وقتل يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين، وكانت أيامه أربع عشرة سنة وأربعة اشهر وستة أيام، وقيل في أمر الموفق وأصحاب الزنج أشعار كثيرة، فمن ذلك قول يحيى بن محمد الأسلمي:
أقول وقد جاء البشير بوقعة ** أعزت من الإسلام ما كان واهيا

جزى الله خير الناس للناس بعدما ** أبيح حماهم خير ما كان جازيا

تفرد، إذ لم ينصر الله ناصر ** بتجديد دين كان أصبح باليا

وتجديد ملك قد وهى بعد عزه ** واخذ يثارات تبين الأعاديا

ورد عمارات أزيلت وأخربت ** ليرجع فيء قد تخرم وافيا

وترجع أمصار أبيحت وأحرقت ** مراراً فقد أمست قواءً عوافيا

ويشفي صدور المسلمينبوقعة ** يقر بها منها العيون البواكيا

ويتلى كتاب الله في كل مسجد ** ويلقى دعاء الطالبيين خاسيا

فأعرض عن جناته ونعيمه ** وعن لذة الدنيا وأصبح عاريا

وهي قصيدة طويلة، وقال غيره في هذا المعنى أيضاً شعراً كثيراً؛ وقد انقضى أمر الزنج.

.ذكر الظفر بالروم:

وفي هذه السنة خرجت الروم في مائة ألف، فنزلوا على قلمية، وهي على ستة أميال من طرسوس، فخرج إليهم بازمار ليلاً فبيتهم في ربيع الأول، فقتل منهم، فيما يقال، سبعين ألفأن وقتل مقدمهم، وهوبطريق البطارقة، وقتل أيضاً بطريق الفنادين، وبطريق الباطليق، وأفلت بطريق قرة وبه عدة جراحات، وأخذ لهم سبعة صلبان من ذهب وفضة؛ وصليبهم الأعظم من ذهب مكلل بالجوهر؛ وأخذ خمسة عشر ألف دابة، ومن السروج وغير ذلك، وسيوفاً محلاة، وأربع كراسي من ذهب، ومائتي كرسي من فضة، وآنية كثيرة، ونحواً من عشرة آلاف علم ديباج، وديباجاً كثيراً وبزيون وغير ذلك.

.ذكر وفاة الحسن بن زيد وولاية أخيه محمد:

وفيها توفي الحسن بن زيد العلوي، صاحب طبرستان، في رجب، وكانت ولايته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر وستة أيام، وولي مكانه أخوه محمد ابن زيد.
وكان الحسن جواداً امتدحه رجل فأعطاه عشرة آلاف درهم، وكان متواضعاً لله تعالى.
حكي عنه أنه مدحه شاعر فقال: اله فرد، وابن زيد فرد، فقال: بفيك الحجر، يا كذاب، هلا قلت الله فرد، وابن زيد عبد! ثم نزل عن مكانه، وخر ساجداً له تعالى، وألصق خده بالتراب، وحرم الشاعر.
وكان عالماً بالفقه والعربية، مدحه شاعر فقال:
لا تقل بشرى، ولكن بشريان ** عزة الداعي ويوم المهرجان

فقال له: كان الواجب أن تفتتح الأبيات بغير لأن فإن الشاعر المجيد يتخير لأول القصيدة ما يعجب السامع، ويتبرك به، ولواتدأت بالمصراع الثاني لكان أحسن؛ فقال له الشاعر: ليس في الدنيا كلمة أجل من قول: لا إله إلا الله، وأولها لا فقال: أصبت! وأجازه.
وحكي عنه أنه غنى عنده مغن بأبيات الفضل بن العباس في عتبة بن أبي لهب التي أولها: وأنا الأخضر من يعرفني؟ أخضر الجلدة من بيت العرب فلما وصل إلى قوله:
برسول الله وابني عمه ** وبعباس بن عبد المطلب

غير البيت فقال: لا بعباس بن عبد المطلب، فغضب الحسن وقال: يا ابن اللخناء، تهجوبني عمنا بين يدي، وتحرف ما مدحوا به؟ لئن فعلتها مرة ثانية لأجعلنها آخر غنائك.

.ذكر وفاة أحمد بن طولون وولاية ابنه خمارويه:

في هذه السنة توفي احمد بن طولون، صاحب مصر، والشام، والثغور الشامية.
وكان سبب موته أن نائبه بطرسوس وثب عليه بازمار الخادم، وقبض عليه، وعصى على أحمد، وأظهر الخلاف، فجمع أحمد العساكر وسار إليه، فلما وصل أذنة كاتبه وراسله يستميله، فلم يلتفت إلى رسالته، فسار إليه احمد، ونازله وحصره، فخرق بازمار نهر البلد على منزلة العسكر، فكاد الناس يهلكون، فرحل أحمد مغيظاً حنفاً وكان الزمان شتاء، وأرسل إلى بازمار: إنني لم أرحل إلا خوفاً أن تنخرق حرمة هذا الثغر فيطمع فيه العدو.
فلما عاد إلى أنطاكية أكل لبن الجواميس، فأكثر منه، فأصابه منه هيضة، واتصلت حتى صار منها ذرب، وكان الأطبار يعالجونه، وهويأكل سرأن فلم ينجح الدواء، فتوفي رحمه الله.
وكانت إمارته نحوست وعشرين سنة، وكان عاقلاً حازمأن كثير المعروف والصدقة، متدينأن يحب العلماء وأهل الدين، وعمل كثيراً من أعمال البر ومصالح المسلمين، وهوالذي بنى قلعة يافأن وكانت المدينة بغير قلعة، وكان يميل إلى مذهب الشافعي، ويكرم أصحابه.
وولي بعده ابنه خمارويه، وأطاعه القواد، وعصى عليه نائب أبيه بدمشق، فسير إليه العساكر فأجلوه، وساروا من دمشق إلى شيزر.

.ذكر مسير إسحاق بن كنداجيق إلى الشام:

لما توفي احمد بن طولون كان إسحاق بن كنداجيق على الموصل والجزيرة، فطمع هووابن أبي الساج في الشام، واستصغرا أولاد أحمد، وكاتبا الموفق بالله في ذلك، واستمداه، فأمرهما بقصد البلاد، ووعدهما إنفاذ الجيوش، فجمعأن وقصدا ما يجاورهما من البلاد، فاستوليا عليه وأعانهما النائب بدمشق لأحمد بن طولون، ووعدهما الانحياز إليهمأن فتراجع من بالشام من نواب أحمد بانطاكية، وخلب وحمص، وعصى متولي دمشق، واستولى إسحاق على ذلك.
وبلغ الخبر إلى أبي الجيش خمارويه بن أحمد، فسير الجيوش إلى الشام فملكوا دمشق، وهرب النائب الذي كان بها؛ وسار عسكر خمارويه من دمشق إلى شيزر لقتال إسحاق بن كنداجيق وابن أبي الساج، فطاولهم إسحاق ينتظر المدد من العراق، وهجم الشتاء على الطائفتين، وأضر بأصحاب ابن طولون، فتفرقوا في المنازل بشيزر.
ووصل العسكر العراقي إلى كنداجيق وعليهم أبوالعباس أحمد بن الموفق وهوالمعتضد بالله، فلما وصل سار مجداً إلى عسكر خمارويه بشيزر، فلم يشعروا حتى كبسهم في المساكن، ووضع السيف فيهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وسار من سلم إلى دمشق على أقبح صورة، فسار المعتضد إليهم، فجلوا عن دمشق إلى الرملة، وملك هودمشق، ودخلها في شعبان سنة إحدى وسبعين ومائتين، وأقام عسكر ابن طولون بالرملة، فأرسلوا إلى خمارويه يعرفونه بالحال، فخرج من مصر في عساكره قاصداً إلى الشام.

.ذكر عدة حوادث:

وفيهأن في جمادى الأولى، توفي هارون بن الموفق ببغداد.
وفيها كان فداء أهل سندية على يد بازمار.
وفيهأن في شعبان، شغب أصحاب أبي العباس بن الموفق على صاعد بن مخلد، وهووزير الموفق، وطلبوا الأرزاق، وقاتلهم أصحاب صاعد، وكان بينهم حرب شديدة قتل فيها جماعة، وأسر من أصحاب أبي العباس جماعة، ولم يكن أبوالعباس حاضرأن كان قد خرج متصيدأن ودامت الحرب إلى بعد المغرب، ثم كف بعضهم عن بعض، ثم وضع العطاء من الغد، واصطلحوا.
وفيها كانت وقعة بين إسحاق بن كنداجيق وبين ابن دعباش وكان ابن دعباش بالرقة عاملاً عليهأن وعلى الثغور والعواصم، لابن طولون، وابن كنداجيق على الموصل للخليفة.
وفيها ابتدأ إسماعيل بن موسى بناء مدينة لاردة من الأندلس، وكان مخالفاً لمحمد صاحب الأندلس، ثم صالحه في العام الماضي، فلما سمع صاحب برشلونة الفرنجي جمع وحشد وسار يريد منعه من ذلك، فسمع به إسماعيل، فقصده وقاتله، فانهزم المشركون، وقتل أكثرهم، وبقي أكثر القتلى في تلك الأرض دهراً طويلاً.
وفيها توفي محمد بن إسحاق بن جعفر الصاغاني الحافظ، ومحمد بن مسلم بن عثمان، المعروف بابن واره الرازي، وكان إماماً في الحديث، وله فيه مصنفات.
وفيها توفي داود بن علي الاصبهاني الفقيه، إمام أصحاب الظاهر، وكان مولده سنة اثنتين ومائتين.
وفيها توفي مصعب بن أحمد بن مصعب أبواحمد الصوفي الزاهد، وهومن أقران الجنيد.
وفيها مات ملك الروم، وهوابن الصقلبية، وحج بالناس هارون بن محمد بن محمد بن إسحاق بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله ابن العباس.
وفيها توفي خالد بن أحمد بن خالد السدوسي الذهلي الذي كان أمير خراسان ببغداد، وكان قد قصد الحج فقبض عليه الخليفة المعتمد وحبسه، فمات بالحبس، وهوالذي أخرج البخاري، صاحب الصحيح، من بخارى، وخبره معه مشهور، فدعا عليه البخاري فأدركته الدعوة.

.حوادث سنة إحدى وسبعين ومائتين:

.ذكر خلاف محمد وعلي العلويين:

في هذه السنة دخل محمد وعلي ابنا الحسين بن جعفر بن موسى بن جعفر ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المدينة، وقتلا جماعة من أهلهأن وأخذا من قوم مالأن ولم يصل أهل المدينة في مسجد رسول الله، صلى اله عليه وسلم، لا جمعة، ولا جماعة، فقال الفضل بن العباس العلوي في ذلك:
أخربت دار هجرة المصطفى الب ** ر فأبكى خراببها المسلمينا

عين فأبكي مقام جبريل والقب ** ر فبكي والمنبر الميمونا

وعلى المسجد الذي اسه التق ** وى، خلاءً امسى من العابدينا

وعلى طيبة التي بارك الل ** ه عليها بخاتم المرسلينا

.ذكر عزل عمرو بن الليث عن خراسان:

وفيها ادخل المعتمد إليه حاج خراسان، وأعلمهم أنه قد عزل عمروبن الليث عما كان قلده، ولعنه بحضرتهم، وأخبرهم أنه قلد خراسان محمد ابن طاهر، وأمر أيضاً بلعن عمروعلى المنابر، فلعن، فسار صاعد بن مخلد إلى فارس لحرب عمرو، فاستخلف محمد بن طاهر رافع بن هرثمة على خراسان، فلم يغير السامانية عما وراء النهر.

.ذكر وقعة الطواحين:

وفي هذه السنة كانت وقعة الطواحين بين أبي العباس المعتضد وبين خماريه ابن أحمد بن طولون.
وسبب ذلك أن المعتضد سار من دمشق، بعد أن ملكهأن نحوالرملة إلى عساكر خمارويه، فأتاه الخبر بوصول خمارويه إلى عساكره، وكثرة من معه من الجموع، فهم بالعود، فلم يمكنه من معه من أصحاب خمارويه الذين صاروا معه؛ وكان المعتضد قد أوحش ابن كنداجيق، وابن أبي الساج، ونسبهما إلى الجبن، حيث انتظراه ليصل إليهمأن ففسدت نياتهما معه.
ولما وصل خمارويه إلى الرملة نزل على الماء الذي عليه الطواحين، فملكه، فنسبت الوقعة إليه؛ ووصل المعتضد وقد عبأ أصحابه، وكذلك أيضاً فعل خمارويه، وجعل له كميناً عليهم سعيداً الأيسر، وحملت ميسرة المعتضد على ميمنة خمارويه، فانهزمت، فلما رأى ذلك خمارويه، ولم يكن رأى مصافاً قبله، ولى منهزماً في نفر من الأحداث الذين لا علم لهم بالحرب، ولم يقف دون مصر.
ونزل المعتضد إلى خيام خمارويه، وهولا يشك في تمام النصر، فخرج الذين عليهم سعيد الأيسر، وانضاف إليه من بقي من جيش خمارويه، ونادوا بشعارهم، وحملوا على عسكر المعتضد وهم مشغولون بنهب السواد، ووضع المصريون السيف فيهم، وظن المعتضد أن خمارويه قد عاد، فركب فانهزم ولم يلوعلى شيء، فوصل إلى دمشق، ولم يفتح له أهلها بابهأن فمضى منهزماً حتى بلغ طرسوس، وبقي العسكران يضطربان بالسيوف، وليس لواحد منهما أمير.
وطلب سعيد الأيسر خمارويه فلم يجده، فأقام أخاه أبا العشائر، وتمت الهزيمة على العراقيين، وقتل منهم خلق كثير وأسر كثير.
وقال سعيد لعساكر: إن هذا أخوصاحبكم، وهذه الأموال تنفق فيكم؛ ووضع العطاء، فاشتغل الجند عن الشغب بالأموال، وسيرت البشارة إلى مصر، ففرح خمارويه بالظفر، وخجل للهزيمة، غير أنه أكثر الصدقة، وفعل مع الأسرى فعلة لم يسبق إلى مثلها أحد قبله، فقال لأصحابه: إن هؤلاء أضيافكم فأكرموهم؛ ثم أحضرهم بعد ذلك وقال لهم: من اختار المقام عندي فله الإكرام والمواساة، ومن أراد الرجوع جهزناه وسيرناه؛ فمنهم من قام ومنهم من سار مكرماً؛ وعادت عساكر خمارويه إلى الشام أجمع، فاستقر ملك خمارويه له.

.ذكر الحرب بين عسكر الخليفة وعمرو الصفار:

في هذه السنة عاشر ربيع الأول كانت وقعة بين عساكر الخليفة وفيها أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، وبين عمروبن الليث الصفار، ودامت الحرب من أول النهار إلى الظهر، فانهزم عمرووعساكره وكانوا خمسة عشر ألفاً بين فارس وراجل، وجرح الدرهمي مقدم جيش عمروبن الليث، وقتل مائة رجل من حماتهم، واسر ثلاثة آلاف أسير، واستأمن منهم ألف رجل، وغمنوا من معسكر عمرومن الدواب والبقر والحمير ثلاثين ألف رأس، وما سوى ذلك فخارج عن الحد.